-1-
أريدك الليلة معي
نيران الحروب تضيء على كل شيء
ولا وجه أشاهده على جدارن تهدمت
سوى وجه الخديعة.
أريدك معي..
الموت يحاصرني
و ذراعيّ قصيرتان جداً
لا تطالان عنقه لتهددانه بأغنية أو قصيدة
وحيدة أنا...
أبحث عن جثتي في العنواين العريضة
في الأخبار
في الشاشات الحمراء المضرجة بدمي
في تلعثم المذيعة وهي تتلو اسمي على قائمة القتلى
فلا أجدني.
تعال...
أشعر بأن الرصاصة تسكن حنجرتي
و أن رأسي المثقل بالحجارة عاجز عن اختراع
أية فكرة بإمكانها اقناعي بأنني ما زلت على قيد الحياة.
تعال قليلاً...
بزنبقة بيضاء
بإبريق ضوء
برداء من الموج.
الصحراء تكاد تبتلعني
تعال..
أريد أن أسند رأسي على حلم أبدي
يطفىء النيران بابتسامتك.
-2-
أعرف أن السكر المنثور فوق وجه الموت
لا يغير طعم الفقد
و لا الصباحات التي تفيض بالدمع
تحجب لون الشمس
و لا انزياحي عن قارات الصمت الجنوبية لبعض الوقت
يغير ما في نفس الوقت.
وأنت تعرف أن دمعي لك
وصلواتي المشدوهة الملامح لك
إلهي الصلصالي الرهبة
الذي من بين أصابعي يتساءل فيَّ عليك لك
عباءتي التي تركتها في حوزة الليل ذات جنوح لك
الخيط الذي أطرز به قصائدي لك
قلبي الذي تحت وصاية الوردة لك
قطرة الدم التي التصقت في شفاهي
يوم شقها الكلام لك
وبوصلة صمتي
وذلك الحبل السري
الذي يشنقني على أشجار إخوتي لك
والبئر التي تحتضنني
مع يوسف والذئب البريء
حجم لغتي على تخوم كل انتظار
الأساطير التي تعبر من ثقوب اسمي لك.
النور الذي سرقته خلسة من نار بروميثيوس
ابتسامة سيزيف التي تطوق محاولاتي
تمتمة الشيطان على مأدبتي
تلاوات خصر عشتار
قراءاتي النقدية في أنوثة القصيدة لك.
كمشة القمح في كف تموز...
شقائق أدونيس
وامتدادي منذ الكلمة البدء إلى حدود القبيلة
ومنذ ولادة البرق إلى رومانسية الطلقة
ولك ما تعرف وأعرف
بداية هذه القصيدة و آخر عناقيد عتبي: أيها الوطن كن لي!
-3-
الضوء شديد الوقاحة في الغرفة
لا حيل لي في النهوض نحو المفتاح
لكن أحصنة الحزن تتسابق تحت جلدي
بينما أعدو لاهثة في فيلمٍ عن حرب
كنت أنا بطلته التي وقفت خارج التلفاز
لتتفرج على حجارة الأسئلة كيف تقفز
من أفواه البنادق و الدبابات :
لماذا يموت الجنود يا أبي؟
لماذا يموت الأطفال
والنساء و الزغاريد
ولقمة الفرح المغمسة بالدمع؟
لكن أبي بعيد
والاتصالات مقطوعة إلى السماء
منذ آخر ربيع.
أُشغل نفسي بشيء آخر
بصنع سلالم كاذبة مثلاً
ولا أدري إن كنت أصنعها لأصعد إلى الله
أم لأنزل من سريري
فأطفىء وقاحة الضوء بكبسة زر واحدة.
أتذكّر أن لا حيل لي ولا قوة
ولا أريد أن أنهض من هذا الخندق الذي امتلأ
بأفاعٍ بدلت جلدها بعلمٍ وطنيّ
أعرف، أعرف...
أعرف أنها ستلدغني
وأني سأذهب لأحضر جثتي
كي أعد لها عزاءً يليق بها
وأن رجلاً ما
أخاف أن أُفصح عن هويته
سيوقفني
وسيطالبني بوثيقة تُثبت
أن الجثة هي جثتي
لا جثة أحد آخر غيري
وأعرف أني سأفشل في ذلك
وأني سأعود أدراجي خائبة بلا جسدي
بعد أن أنتقي منه جرحاً أو اثنين
ثقباً أو ثلاثة
وبعض النُدب
أعرضها على المارّة في رصيف ما
علّ يداً يسرى مبتورة في نفس الحرب
تتكفل بالموضوع فتكفنني بذات العلم الوطنيّ
وتمددني على ذات السرير
لأكمل الفيلم الطويل
تحت ضوء شديد الوقاحة
كذلك المنبعث من نيران الحرب.
وقبل أن تطفىء التلفاز
أهمسُ من جرح ما زال يفتح فمه جوعاً:
لماذا يموت الجنود؟
لماذا يموت الأطفال
والنساء
وكسرة الخبز اليابسة؟
تصفعني من عالي الألم:
لأننا نحتاج الكثير من بريق دمع
يتلألأ على الأوسمة المعلقة
على صدر أفضل مخرج
وأفضل منتج
وأفضل ممثل
في هذا الفيلم الذي تشاهدين تحت
ضوء شديد الصراحة ولا حول لك
ولا قوة كي تنامي
بكبسة زر واحدة.
-4-
ههههه...
ويخرج مارد أصفر من قمقم اللغة
يصرخ في وجهي:
مجنونة أنت!
كيف تبدأين القصيدة بقهقهات مفتتة!
أدير له ظهري
وأمضي في خيط ضحكتي الطويل
ولا أطلب منه أمنية، أن يضع في يدي سر المجاز..
فلا شيء يشفي غليل اليائس
مثل ضحكة تغرس مخالبها في عنق الموت
كأن تنظر إلى هذا العالم السيىء السمعة مثلاً
و تفكر:
هذا فيلم سينمائي هابط
وعما قليل سينهض الأموات من موتهم
والجرحى من دمائهم
والفقراء من أدوارهم الأبدية
ليتابعوا حياتهم الطبيعية في موت آخر.
/ألم أقل أنه فيلم هابط؟/
سأشد خيط قهقاتي الطويل إذاً
على رقاب الذين لا يقرأون
الذين يقرأون ولا يفهمون
الذين يفهمون و يختبئون في قمقم اللغة الأصفر
على الجمهور المصفق
والمخرج و المنتج
وكاتب السينايور وصديقي الشاعر
الذي لا يرى من القصيدة
سوى الأثداء المتدلية،
/ بينما في الخارج امرأة تتدلى السموم من صدرها ،
تباري الذئب في طعن جنديين ولدا من رحمها/
والعمامات و الياقات
وربطات العنق التي تشنق أصحابها على غصن فكرة زائفة.
سأضحك منكم حتى الموت
وأمضي
كيائس يدير ظهره لشاشة عملاقة
تفرد فجائعنا في فيلم سينمائي هابط..
هابط ...
ها.. هههه.
-5-
كنت أنظر في المرآة..
فجأة لم أر وجهي،
رأيت الجدار الذي خلفي
الستار المعلق على النافذة
بعض أشيائي المبعثرة
... ريح هناك..
ريح هنا
لكني لم أرني
مددت يدي إلى الزجاج أبحث عني..
بكيت
هرولت مذعورة
صرخت: لقد فقدتُني..
لقد فقدتُ ني...
لم يأت أحد ليلملم صوتي المتكسر في أرض الغرفة
ولم تأت أنت لتعيد لي ملامحي.
حاولت أن أفرد جناحي...
كانا مازالا ينزفان
فهمت أني لن أستطيع التحليق أكثر
عدت إلى المرآة خائفة..
لم أر إلا دماً تبعثر فوق بقعة بيضاء
كانت تسمى فيما قبل وجهي.
-6-
أتخيل برتقالة تقشرني جلد اً جلداً
حتى آخر عظامي
فلا أنزف
ولا هي تغص بي
حين تلتهمني عن سابق جوع.
في باطن البرتقالة أمعاء كثيرة
تتشابك في وسط اللهب
يبتلع بعضها الآخر...
قالوا لي إنها ثورة لكني لم أفهم شيئاً
فسوريا في الخارج تُجلَد وحيدة.
أتخيّلُني عصا على شكل بندقية
أحملُني و أهم بالخروج لفعل شيء
فأتعثر بطعم حامض يوقعني في قعر مأساتي..
لم أكن أعرف أن للفوسفور مذاقاً حامضاً كالموت
سأحاول في المرة القادمة
أن لا أقفز من فوق سور القصيدة
لكن سوريا تُغتصَب وحيدة
و بعض أخواتها يفركن كعوب أقدامهن بجراح المقابر
بعضهن يكحلن جفون الليل بمخاضها
بعضهن يقصصن جدائلهن بمناجل الاستفهام
و بعضهن ....
الأسئلة كثيرة
ولا وقت للعروس كي تغسل أصابعها من الحناء
لا وقت لها لتبحث عن نصف برتقالتها
كي تغلق دائرة الجرح
العرس في بطن برتقالة حمراء
قشرتنا جلداً جلداً
وطناً وطناً
إلى آخر عظامنا.
صديقي يقول: "القضايا الكبيرة تقتل أصحابها"
وأنا هنا،
مصابة بأول الحمّى
-7-
الدونكيشوت
يحاول أن يُجلس من انحناءة ظهره
يرتفع قليلاً عن واقعه الخاص به
يخلع كعبه العالي
يشعر بسخونه التراب
وبرودة خوذته
سراب
سراب
سراب
/يهمس/
الدمى المقطوعة الرأس
الطواحين البعيدة
تلك الريح
سرداب معتم
كفكرة احتضنتها
وهربت بها وحدي
مثل طفل جائع
سرق رغيف خبز و هرب به
سانشو!
إن ظهري يؤلمني من الحروب مع الريح
و من القوافل التي كانت تظن
أنها تسير لأن الكلاب تنبح خلفها.
إن قلبي يؤلمني
كطاحونة هواء تخلت عنها الريح
كشبح هجره البيت لأنه رفض الهزيمة.
سأتقيأ المغامرة
وأعيد للفرسان كتبهم ومدائحهم
و سأنام في ظل حزني الشاهق
إلى أن تستيقظ الأجيال من ظلمتها.
الدونكيشوت يعيد انحناءة ظهره من جديد.
يستلقي على مائدة التراب
يغمض عينيه و يحلم
بأذرع الطواحين الشريرة تطوق جسده.
سانشو يبكي دون أن يفهم.
- 8 -
الشك آية منقوشة بحناء الآلهة على خواتم الجميلات.
يبتسم بديانة عتيقة قابلة للانحناء في الأهازيج الهاربة من طقوس العرس
يفرد إيماني على أرصفة باردة تبيع الحب والوطن.
الأنبياء يقرفصون لآلهة الدرجة الثالثة
العشاق يحفظون الدرب الدائري في بطن كل خاتم
فقط الساسة، عن حزن، يدركون مكر اعتلاء ظهر نبي
والقبض على دوار عاشق بخواتم الجميلات
في نفق اللعبة البائسة
بين الضوء والظلال.
خذ عني ليلي
فما عاد ينفعني
بعد أن تشققت القصيدة
على كاحل مواسم مستهجنة.
وخذ مني القصيدة
فلم تعد لي
بعد أن اخترقت صدر الليل رصاصة
بحجم الشك الهائم على أطراف الخواتم.
وخذ دعائي
فليس هناك من فتوى بكر
تبرر إقامة السكين في حنجرتي
أما أنا فـسألف جسدي بملاءة الضباب هذا
إلى حين تستيقظ الوردة في ضمير اللون
لا أن تنام على قبر العاشق
و سأكتفي بصوتي المذبوح باسم معادلات
لم أكن يوماً سبباً في اختراعها
وسأزنِّر أحلامي بأجفان مكسرة
على تخوم الانتظار
وأحتضن وسادة من الغمام
كي أنسى شهقة العلو وحزن التراب
وأرفع نبيذ الآلهة مرتبة الشك البريء من خواتم الجميلات.
-9-
أعلم جيداً
أن النافذة التي رسمتُ على دفتري
لا تطلّ على أي بحر
فيما عدا بحر الشعر
وأعرف أن بحور الشعر
لا أسماك فيها
فيما عدا بعض الأحلام العالقة
في صنارة صياد جائع
كان كلما اكتشف أنه اصطاد وهماً
عاد مسرعاً يلقي خيبته تحت النافذة،
تلك التي رسمت على دفتري
....
خلف النافذة
ثمة امرأة مبتورة الذراع
تظن دائماً أنها افردويت
وأن صياد الأحلام ذاته
يوماً سيعثر على ذراعها
و سيعيده إليها
لترفع به ثوبها عن ساقيها قليلاً
ربما
أو لتحمل سيفاً
أو ترساً
أو ربما
لتفتح النافذة
تلك النافذة التي رسمت على دفتري..
...
عاد الصياد إلى مائدته الفارغة
وعادت أفردويت إلى دموعها خلف الستائر
أما أنا فكنت أعلم جيداً
أن النافذة التي رسمت
لم تكن تطل إلا على عتمة الحبر.
-10-
أزرع للكلمات ريشاً و أُطلقها
فيطلق أحمق عليها من فوهة بندقيته
و يحلق خلفها شاعرٌ، و خلفي
في سلتي الكثير من العصافير العارية
لا أدري ماذا أفعل بها
قلبي مقبرة تزدحم بالكلام
واللغة مقصلتي
...
لن يحبني أحد
جسدي بيت من زجاج
يتراشقه الصبية بالحجارة.
...
لن ينقذني أحد
فأنا مثل كلماتي
عصافير تحلق
في سماء ممتلئة بالدخان.
...
لن يأتي أحد إلى جنازتي
فأمي مشغولة جداً بحياكة أهازيج جديدة
لزفافي.
....
أنا ميتة . قلت لهم.
نظروا في وجهي باستغراب
و غادروا
...
أسحب الشال عن كتفي العاري
أقمط به نصف القصيدة
وأبكي
من البرد.